Me

Me Slideshow: Maro’s trip from Jeddah, Saudi Arabia to 7 cities , Cairo, Syria, Medina, Yanbu, Dayr aţ Ţābiyāt (near Lattakia) and Zagazig was created by TripAdvisor. See another Egypt slideshow. Create your own stunning free slideshow from your travel photos.

الأربعاء، ٥ محرم ١٤٣٣ هـ

خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان



دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول، وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين.

وقال: لا أتحمل أمرهم حيا وميتا، وإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم .

ومن تمام ورعة لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه.

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه: أنه استثناه من بينهم، وقال: لست مدخله فيهم.

وقال لأهل الشورى: يحضركم عبد الله - يعني: ابنه - وليس إليه من الأمر شيء - يعني: بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولي شيئا - وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلا من المسلمين، وجعل عليهم مستحثا أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي.

وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحدا، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله بما ينزل به جبريل عليه.

قالوا: فلما مات عمر رضي الله عنه، وأحضرت جنازته تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف: لستما من هذا في شيء، إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس.

فتقدم صهيب وصلى عليه، ونزل في قبره مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنه كان غائبا، فلما فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة.

وقيل: في حجرة عائشة.

وقيل: في بيت المال.

وقيل: في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والأول أشبه والله أعلم.

فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب، فحصبهم سعد بن أبي وقاص وطردهما، وقال: جئتما لتقولا حضرنا أمر الشورى؟

رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته.

والمقصود: أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم فكثر القول وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم مالهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه.

فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين.

فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله علي الإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا: نعم!.

ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن.

فقال كل منهما: نعم!. ثم تفرقوا.

ويروى: أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به عليَّ؟.

قال: بعثمان.

وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟.

قال: بعلي بن أبي طالب.

والظاهر: أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها ينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه.

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب.

وحتى سأل من يرد بمن الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره.

فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءا واستخارةً، وسؤالا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجدا أحدا يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب، جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور، والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث اذهب فادع إليَّ عليا وعثمان.

قال المسور: فقلت: بأيهما أبدأ؟

فقال: بأيهما شئت.

قال: فذهبت إلى علي فقلت: أجب خالي، فقال: أمرك أن تدعو معي أحدا؟

قلت: نعم!.

قال: من؟

قلت: عثمان بن عفان.

قال: بأينا بدأ؟

قلت: لم يأمرني بذلك، بل قال: ادع لي أيهما شئت أولا، فجئت إليك، قال: فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليَّ حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان، فقال: إني قد سألت الناس عنكما، فلم أجد أحدا يعدل بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عمه رسول الله ، وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلا حييا رضي الله عنه -.

ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله فوقف وقوفا طويلا، ودعا دعاءً طويلا لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرا وجهرا بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي وأما عثمان، فقم إلي يا علي فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم نعم!

قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.

قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال: آخرا.

وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما } إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقلها والله أعلم.

والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تميز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومبادها وقويمها، والله الموفق للصواب.

وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه: أنه بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جدا.

وقد روى الواقدي أيضا، عن ابن جرير، عن ابن أبي مليكة قال: بويع لعثمان بن عفان لعشر خلون من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليال، وهذا أغرب من الذي قبله.

وكذا روى سيف بن عمر، عن عامر الشعبي أنه قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الأذان والإقامة فخرج فصلى بهم العصر.

وقال سيف: عن خليفة بن زفر ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس - يعني: في أعطياتهم مائة - ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك.

قلت: ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أن ذلك كان قبل الزوال، لكنه لما بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر وصلى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره.

وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين، فروى سيف بن عمر، عن بدر بن عثمان، عن عمه قال: لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبه، فأتى منبر النبي فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي وقال: إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم.

أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا، بالذي هو خير، فقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابا وَخَيْرٌ أَمَلا } [الكهف: 45-46] .

قال: وأقبل الناس يبايعونه.

قلت: وهذه الخطبة: إما بعد صلاة العصر يومئذٍ، أو قبل الزوال، وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر وهو الأشبه والله أعلم.

وما يذكره بعض الناس من أن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها.

فهو شيء يذكره صاحب (العقد) وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه والله أعلم.

وأما قول الشعبي: إنه زاد الناس مائة مائة - يعني: في عطاء كل واحد من جند المسلمين - زاده على ما فرض له عمر مائة درهم من بيت المال، وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولي عثمان أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطا في المسجد أيضا للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين رضي الله عنه.

وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله يقف عليها، فلما ولي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال: إن هذا يطول فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله ، وزاد الأذان الأول يوم الجمعة، قبل الأذان الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله إذا جلس على المنبر.

وأما أول حكومة حكم فيها، فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلا نصرانيا يقال له: جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل: إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر. فالله أعلم.

وقد كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه، وأمر بقتله.

وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم؟

فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لأن أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله.

قالوا: فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول:

ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيه والحوادث جمة * نعم اتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر

قال: فشكا عبيد الله بن عمر زيادا إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد، فأنشأ زياد يقول في عثمان:

أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان

أتعفوا إذ عفوت بغير حق * فمالك بالذي يخلى يدان

قال: فنهاه عثمان عن ذلك وزبره فسكت زياد بن لبيد عما يقول.

ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الأمصار أمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتباع وترك الابتداع.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولى عليها سعد بن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه لأن عمر قال: فإن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.

فاستعمل سعدا عليها سنة وبعض أخرى، ثم رواه ابن جرير من طريق سيف، عن مجالد، عن الشعبي.

وقال الواقدي فيما ذكره: عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر أوصى أن تقرَّ عماله سنة، فلما ولي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعدا، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

قال ابن جرير: فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة خمس وعشرين.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني: سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف.

وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ههنا هذه الوقعة وملخصها: أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية حين نقضوا العهد، فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالا جزيلة، فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم في كل سنة، فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالما غانما إلى الكوفة، فمر بالموصل.

وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام، وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة: أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلا أمينا كريما شجاعا في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام.

فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيبا حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمر به أمير المؤمنين، وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمَّرَ سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام، فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام، وعلى جند المسلمين حبيب بن مسلم الفهري، فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئا كثيرا وفتحوا حصونا كثيرة ولله الحمد.

وزعم الواقدي: أن الذي أمد أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه، فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة في ستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة، وقد أقبل إليه الموريان الرومي في ثمانين ألفا من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعا شهما فعزم على أن يبيت جيش الروم، فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك، فقالت له: فأين موعدي معك؟ - تعني: أين اجتمع بك غدا؟ -، فقال لها: موعدك سرادق الموريان، أو الجنة.

ثم نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحاك بن قيس الفهري، فهي أم ولده.

قال ابن جرير: واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي، وأبو معشر: حج بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان.

وقال آخرون: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

والأول هو الأشهر فإن عثمان لم يتمكن من الحج في هذه السنة لأجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه، وكان يقال لهذه السنة: سنة الرعاف.

وفيها: افتتح أبو موسى الأشعري الري بعد ما نقضوا العهد الذي كان واثقهم عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

وفيها: توفي سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ويكنى: بأبي سفيان، وكان ينزل قديدا وهو الذي اتبع رسول الله ، وأبا بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط الديلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أن يردهم على أهل مكة لما جعلوا في كل واحد من النبي وأبي بكر مائة مائة من الإبل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل فلم يسلطه الله عليهم، بل لما اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله ساخت قوائم فرسه في الأرض حتى ناداهم بالأمان فأعطوه الأمان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله ، ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه رسول الله وهو القائل: يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟

فقال له: « بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ».



صفة قتله رضي الله عنه


وقال خليفة بن خياط: حدثنا ابن علية، ثنا ابن عوف، عن الحسن قال: أنبأني رباب، قال: بعثني عثمان فدعوت له الأشتر فقال: ما يريد الناس؟

قال: ثلاث ليس من إحداهن بد.

قال: ما هن؟.

قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقتص من نفسك، فأن أبيت فإن القوم قاتلوك.

فقال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله، وأما أن اقتص لهم من نفسي، فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعا، ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا.

قال: وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، فأخذ بلحيته فعالَّ بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك.

قال: أرسل لحيتي يا ابن أخي.

قال: فأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه - يعني أشار إليه - فقام إليه بمشقص فوجئ به رأسه.

قلت: ثم مه؟

قال: ثم تعاوروا عليه حتى قتلوه.

قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله: عن العيص بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد - وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان -: أنها كانت في الدار، ودخل محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه.

فقال: مهلا يا ابن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحييا نادما، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلا حتى غلبوه فدخلوا، وخرج محمد راجعا.

فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه، فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف.

ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت: يا بنت شيبة، أيقتل أمير المؤمنين؟

وأخذت السيف فقطع الرجل يدها، وانتهبوا متاع الدار.

ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله، ونحاه عن المصحف، وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن، ولا مضجع كافر أكرم.

قال: والله ما تركوا في داره شيئا حتى الأقداح إلا ذهبوا به.

وروى الحافظ ابن عساكر: أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله، تسوروا عليه الدار، وأحرقوا الباب، ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم فضربوه حتى غشي عليه، وصاح النسوة: فانزعروا، وخرجوا.

ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال: على أي دين أنت يا نعثل؟.

قال: على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين.

فقال: غيرت كتاب الله؟.

فقال: كتاب الله بيني وبينكم، فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [الأحزاب: 67] ، وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: يا ابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.

وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب: حمارا، ويكنى: بأبي رومان.

وقال قتادة: اسمه رومان.

وقال غيره: كان أزرق أشقر.

وقيل: كان اسمه سودان بن رومان المرادي.

وعن ابن عمر قال: كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا.

قال: ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه، واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها.

ويروى: أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه.

والصحيح: أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها، فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان ذلك في الكتاب مسطورا.

وروى ابن عساكر، عن ابن عون: أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد، فخر لجنبيه، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه.

وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التستري، قالا: ثنا محمد بن خالد بن خداش، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا مبارك، عن الحسن قال: حدثني سياف عثمان: أن رجلا من الأنصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا ابن أخي فلستَ بقاتلي.

قال: وكيف علمت ذلك؟.

قال: لأنه أتى بك النبي يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة.

ثم دخل عليه رجل آخر من الأنصار فقال له مثل ذلك سواء، ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي.

قال: وما يدريك يا نعثل؟

قال: لأنه أُتي بك رسول الله يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة، فخريت على رسول الله .

قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده هذا.

هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة.

وثبت من غير وجه: أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[البقرة: 137] .

ويروى: أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضا حين دخلوا عليه، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن.

وروى ابن عساكر: أنه لما طعن قال: بسم الله توكلت على الله، فلما قطر الدم قال: سبحان الله العظيم.

وقد ذكر ابن جرير في (تاريخه) بأسانيده: أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر فيه الأمر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم.

وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان متأولا قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33] .

وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المفسدين في الأرض، ولا شك أنهم كذلك، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان، ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزور على خطه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعير بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله.

ولهذا لما وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنوا أنه من عثمان أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر، فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤس الصحابة، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، حتى ظن بعض الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه.

فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلف بالله العظيم، وهو الصادق البار الراشد أنه لم يكتب هذا الكتاب، ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به.

فقالوا له: فإن عليه خاتمك؟

فقال: إن الرجل قد يزور على خطه وخاتمه.

قالوا: فإنه مع غلامك وعلى جملك؟

فقال: والله لم أشعر بشيء من ذلك.

فقالوا له - بعد كل مقالة -: إن كنت قد كتبته فقد خنت، وإن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك، وإما لعجزك.

وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير، فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الأمر، لا يضره ذلك لأنه قد يكون رأى ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد اطلع عليه وزور على لسانه؟

وليس هو بمعصوم، بل الخطأ والغفلة جائزان عليه رضي الله عنه، وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة، ظلمة مفترون، ولهذا صمموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء، والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل.

ولهذا خاطبهم بما خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين، وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ».

وذكر أنه لم يقتل نفسا، ولا ارتد بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مس فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله .

وفي رواية: بعد أن كتب بها المفصل.

ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتد عليه الحال، وضاق المجال، ونفذ ما عنده من الماء.

فاستغاث بالمسلمين في ذلك فركب علي بنفسه وحمل معه قربا من الماء، فبالجهد حتى أوصلها إليه بعد ما ناله من جهله أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ؛ وكان قد زجرهم أتم الزجر حتى قال لهم فيما قال: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار، وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا: ما جاء بك؟.

فقالت: إن عنده وصايا بني أمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك، ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندَّت بها وكادت أو سقطت عنها، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جدا.

ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما وقع هذا أعظمه الناس جدا، ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك.

فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج.

واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على الحج عبد الله بن عباس.

فقال له عبد الله بن عباس: إن مقامي على بابك أحاجف عنك أفضل من الحج، فعزم عليه فخرج بالناس إلى الحج، واستمر الحصار بالدار حتى مضت أيام التشريق، ورجع اليسير من الحج، فأُخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين.

وبلغتهم أيضا: أن معاوية قد بعث جيشا مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا القعقاع بن عمرو في جيش، وأن أهل البصرة بعثوا مجاشعا في جيش.

فعند ذلك صمموا على أمرهم وبالغوا فيه وانتهزوا الفرصة بقلة الناس وغيبتهم في الحج، وأحاطوا بالدار، وجدوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار كدار عمرو بن حزم وغيرها، وحاجف الناس عن عثمان أشد المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالا شديدا، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم.

وجعل أبو هريرة يقول: هذا يوم طاب في الضراب فيه.

وقتل طائفة من أهل الدار، وآخرين من أولئك الفجار، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي، ومروان بن الحكم فقطع إحدى علباويه، فعاش أوقص حتى مات.

ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان: زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الأسلمي، في أناس وقت المعركة.

ويقال: إنه انهزم أصحاب عثمان ثم رجعوا.

ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران، وفزع عثمان إلى الصلاة، وافتتح سورة طه - وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده، وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته، وجلس وبين يديه المصحف وجعل يتلو هذه الآية: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] .

فكان أول من دخل عليه رجل يقال له: الموت الأسود، فخنقه خنقا شديدا حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه فتركه، وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ند وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها.

وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 137] .

ثم جاء آخر شاهرا سيفه، فاستقبلته نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها، ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان.

وفي رواية: أن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله، فاستدار المصحف، ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه، وسالت عليه الدماء.

ثم تقدم سودان بن حمران بالسيف فما نعته نائلة فقطع أصابعها فولت، فضرب عجيزتها بيده، وقال: إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، فجاء غلام عثمان فضرب سودان فقتله، فضرب الغلام رجل يقال له: قترة فقتله.

وذكر ابن جرير: أنهم أرادوا حز رأسه بعد قتله، فصاح النساء، وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه: نائلة وأم البنين، وبناته.

فقال ابن عديس: اتركوه، فتركوه.

ثم مال هؤلاء الفجرة على ما في البيت فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم: أيحل لنا دمه، ولا يحل لنا ماله، فانتهبوه، ثم خرجوا فأغلقوا الباب على عثمان وقتيلين معه.

فلما خرجوا إلى صحن الدار، وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرون على شيء إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له: كلثوم التجيبي، ملاءة نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقتل الغلام أيضا.

ثم تنادى القوم أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظه بيت المال فقالوا:

يا قوم النجا النجا، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما قاموا لأجله، وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا، وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال، وكان فيه شيء كثير جدا.



وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه


قال مجالد: عن الشعبي ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك:

فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافل

وقال لأهل الدار لا تقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل

فكيف رأيت الله صب عليهم * العداوة والبغضاء بعد التواصل

وكيف رأيت الخير أدبر بعده * عن الناس إدبار النعام الجوافل

وقد نسب هذه الأبيات سيف بن عمر إلى أبي المغيرة الأخنس بن شريق.

وقال سيف بن عمر: وقال حسان بن ثابت:

ماذا أردتم من أخي الدين باركت * يد الله في ذاك الأديم المقدد

قتلتم ولي الله في جوف داره * وجئتم بأمر جائر غير مهتد

فهلا رعيتم ذمة الله بينكم * وأوفيتم بالعهد عهد محمد

ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق * وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد

فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا * على قتل عثمان الرشيد المسدد

وقال ابن جرير: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا

مستحقبي حلق الماذي قد سفعت * فوق المخاطم بيض زان أبدانا

ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

صبرا فدى لكم أمي وما ولدت * قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا

فقد رضينا بأرض الشام نافرة * وبالأمير وبالإخوان إخوانا

إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حيا وما سميت حسانا

لتسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفانا

وهو القائل أيضا:

إن تُمْسِ الدار ابن أروى منه خاوية * باب صريع وباب محرق خرب

فقد يصادف باغي العرف حاجته * فيها ويأوي إليها المجد والحسب

يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب

وقال الفرزدق:

إن الخلافة لما أظعنت ظعنت * عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا

صارت إلى أهلها منهم ووارثها * لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا

السافكي دمه ظلما ومعصيةً * أي دم لا هدوا من غيتهم سفكوا

وقال راعي الإبل النميري في ذلك:

عشية يدخلون بغير إذن * على متوكل أوفى وطابا

خليل محمد ووزير صدق * ورابع خير من وطئ الترابا

فصل كيفية قتله في المدينة وفيها كثير من الصحابة.





بعض الأحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان


هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي، الأموي، أمير المؤمنين، ذو النورين وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين. وأمه: أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس.

وأمها أم حكيم، وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله .

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم. أسلم عثمان رضي الله عنه قديما على يدي أبي بكر الصديق، وكان سبب إسلامه عجيبا فيما ذكره الحافظ ابن عساكر، وملخص ذلك: أنه لما بلغه أن رسول الله زوج ابنته رقية - وكانت ذات جمال - من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما، فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز - وكانت كاهنة -

فقالت له: أبشر وحييت ثلاثا تترا، ثم ثلاثا وثلاثا أخرى، ثم بأخرى كي تتم عشرا، أتاك خير، ووقيت شرا، أنكحت والله حصانا زهرا، وأنت بكر، ولقيت بكرا، وافيتها بنت عظيم قدرا، بنيت أمرا قد أشاد ذكرا.

قال عثمان: فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة قد تزوجت بغيري، فقلت: يا خالة! ما تقولين؟.

فقالت: عثمان لك الجمال، ولكِ اللسان، هذا النبي معه البرهان. أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تغتالك الأوثان.

قال: فقلت: إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.

فقالت: محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله يدعو به إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلَّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح ومدت الرماح.

قال عثمان: فانطلقت مفكرا، فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال: ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟.

قال: قلت بلى! والله إنها لكذلك.

فقال: والله لقد صدقتك خالتك هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟.

فاجتمعنا برسول الله، فقال: يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فأنا رسول الله إليك وإلى خلقه.

قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله ، فكان يقال:

أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمانُ

فقالت في ذلك سُعدى بنت كريز:

هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى * وأرشده والله يهدي إلى الحقِ

فتابع بالرأي السديد محمدا * وكان برأي لا يصد عن الصدقِ

وأنكحه المبعوث بالحق بنته * فكانا كبدر مازج الشمس في الأفقِ

فداؤك يا ابن الهاشميين مُهجتي * وأنت أمين الله أرسلت للخلقِ

قال: ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مظعون، وبأبي عبيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلا.

وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة.

فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله ، وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله بسهمه منها، وأجره فيها فهو معدود فيمن شهدها.

فلما توفيت زوَّجه رسول الله بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضا في صحبته، وقال رسول الله : « لو كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان ».

وشهد أحدا، وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو عنهم، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله يومئذٍ بإحدى يديه، وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة.

وتقدم عن عبد الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذٍ بثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن سمرة: أنه جاء يومئذٍ بألف دينار فصبها في حجر رسول الله ، فقال : « ماضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين ».

وحج مع رسول الله حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب عمر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ.

ونص عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرهم كما سيأتي.

فولي الخلافة بعده ففتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا } [النور: 55] .

وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[التوبة: 33] .

وقوله : « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».

وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد زمان عثمان رضي الله عنه.

وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه، كريم الأخلاق، ذا حياء كثير، وكرم غزير، يُؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفا لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي يعطي أقواما ويدع آخرين، يعطي أقواما خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، ويكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والإيمان.

وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله في الإيثار، وقد قدمنا ذلك غزوة حنين حيث قسم غنائمها.

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه، نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة،







المصدر - كتاب تاريخ بن كثير - الباب السابع

الفتح الاسلامي لبلاد فارس


الفتح الاسلامي لبلاد فارس


أدى الفتح الإسلامي لبلاد فارس (637-651) إلى نهاية الامبراطورية الساسانية وتراجع الديانة المجوسية في فارس. وقد بدأت تلك الفتوحات بغزو المسلمين للعراق عام 11هـ / 633م بقيادة خالد بن الوليد، فبقي حتى استكمل فتح العراق بالكامل، ثم انتقل خالد بعد ذلك إلى الجبهة الإسلامية الرومية بالشام لاستكمال الفتوحات، فتعرض المسلمون في العراق لهجوم مضاد من قبل الفرس مما أفقدهم مافتحوه مع خالد بن الوليد. فبدأت الموجة الثانية من الفتوحات تحت قيادة سعد بن أبي وقاص سنة 14هـ / 636م، فكان النصر الحاسم في معركة القادسية التي أنهت سيطرة الساسانيين على الجبهة الغربية لفارس. فانتقلت الحدود الطبيعية ما بين الدولة الإسلامية الفتية والفرس من العراق إلى جبال زاجروس. ولكن وبسبب الغارات المستمرة للفرس على العراق، فقد امر الخليفة عمر بتجريد الجيوش لفتح الإمبراطورية الساسانية بأكملها سنة 21هـ / 642م، ولم يمضي عام 23هـ / 644م حتى استكمل القضاء على تلك الإمبراطورية وفتح فارس برمتها.

هذا الفتح السريع لبلاد فارس من خلال سلسلة من الهجمات المنسقة تنسيقا جيدا، والتي ادارها عمر من المدينة المنورة على بعد آلاف الأميال من ميادين المعارك في بلاد فارس، كانت له أعظم انتصار، وأكسبته سمعة كأحد أعظم العباقرة الإستراتيجيين والسياسيين في التاريخ

معظم المؤرخين المسلمين قد قالوا بأن المجتمع المدني في بلاد فارس عند بداية الفتوحات الإسلامية كان في حالة تدهور والانحطاط، وبالتالي فإنهم احتضنوا تلك الجيوش العربية الغازية بأذرع مفتوحة. كما أن منجزات الحضارة الفارسية لم تُهمل، فقد تم استيعابها في النظام الإسلامي الجديد.


بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي

كان نهر الفرات ومنذ بداية القرن الأول الميلادي هو الحد الفاصل ما بين الرومان (البيزنطيون من بعدهم) والبارثانيون (الساسانيون من بعدهم)، وقد كان وبشكل دائم منطقة متنازع عليها. فقد تركزت معظم التحصينات والمعارك التي دارت بينهما بالمناطق الجبلية الشمالية، حيث كانت بادية الشام تفصل ما بينهما في الجنوب. وقد كان الخطر الوحيد المتوقع من الجنوب هو بعض الغزوات من رجال القبائل البدو. وقد حصنت كلا الدولتين نفسيهما من تلك الغزوات القادمة من العرب بإنشاء دويلات شبه مستقلة حليفة لهما على الحدود. فحلفاء البيزنطيون هم الغساسنة، اما المناذرة فقد كانوا حلفاء الفرس. وقد كانوا دائما في حالة احتدام مع بعضهما مما سهل من كونهما تابعين لتلك الإمبراطوريات، وإن لم يغيرا الكثير من توازن القوى بين الروم والفرس. خلال القرنين السادس والسابع الميلادي ظهرت عوامل عدة دمرت توازن تلك القوى والتي تم المحافظة عليها لقرونا عديدة.






تمرد الدويلات العربية الحليفة (602م)

تحول الغساسنة حلفاء الروم إلى المذهب المسيحي الذي يؤمن الطبيعة الواحدة للمسيح (Monophysite)، مما اعتبرته الكنيسة الأرثوذكسية التابعة للبيزنطيين بأنه هرطقة. فحاول البيزنطيون قمع تلك الهرطقة، بتنفير الغساسنة وإثارة القلاقل على حدودهم الصحراوية. وقد ثار العرب أيضا ضد كسرى الثاني بعد قتله للملك النعمان بن المنذر عام 602م، فكانت واقعة ذي قار التي انهزم فيها الجيش الفارسي أمام قبائل العرب الموالية للمناذرة. وبعد مقتل كسرى بدأت تلك الإمبراطورية بالتفكك. وقد اعتبر أن ضم مملكة الحيرة إلى الفرس أحد أهم عوامل سقوط الإمبراطورية الساسانية أمام جحافل الجيوش الإسلامية وسهل فتح فارس أمامهم، حيث وافق المناذرة بأن يكونوا جواسيس للمسلمين بعد هزيمتهم في معركة الحيرة أمام خالد بن الوليد





الحروب البيزنطية - الساسانية (612 - 629)



بعد استئصال كسرى برويز لثورة بهرام جوبين التي كادت أن تودي بحكمه، وجه طاقته إلى خارج الحدود أي باتجاه العدو التقليدي أي البيزنطيون، وقد تمكن من احراز نصر عظيم خلال سنوات قليلة (612 إلى 622) على الروم وتمكن من توسيع حدود مملكته إلى ماكانت عليه زمن الأخمينيون واستولى على مدن أنطاكية ودمشق والإسكندرية والقدس. لكن البيزنطيون اعادوا تجميع قواهم بقيادة هرقل، وبدؤوا باستعادة زمام السيطرة بدءا من سنة 622، وتوالت انتصاراتهم حتى تمكنوا من هزيمة جيش كسرى في معركة نينوى الفاصلة سنة 627م، وصار قريباً من المدائن. وعندها رآى شيرويه بن كسرى أن من الأفضل أن يعقد الصلح مع هرقل. وبمقتضاه استردت بيزنطة كل ما كان لها من البلاد التي كانت تحت أيديهم قبل سنة 602م والتي سقطت في أيدي الفرس، بما في ذلك أملاكهم في الرافدين وبلاد الجزيرة الفراتية والشام ومصر.

اغتيل كسرى الثاني عام 628م فكثر المطالبين بالعرش الساساني، فمن عام 628 حتى 632 حكم فارس عشرة من الملوك والملكات. وكان آخرهم يزدجرد الثالث حفيد كسرى الثاني، وقد قيل أنه مجرد طفل ولكن لم يكن هناك تاريخ معروف لولادته.







فترة حياة النبي محمد


بعد توقيع صلح الحديبية سنة 6 هـ / 628 م، تفرغ الرسول بإرسال الرسائل العديدة إلى مختلف الزعماء من رؤساء القبائل والملوك وكسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الإسلام. وقد حمل تلك الرسائل السفراء إلى الملوك المعنيين في بيزنطة وفارس الحبشة ومصر واليمن والحيرة وكان ذلك في نفس اليوم. وقد قام عبد الله بن حذافة السهمي بنقل رسالة الرسول إلى كسرى، وكان نص الرسالة كالتالي:


" بسم الله الرحمن الرحيم " من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.

وقد كان هناك شبه إجماع من المؤرخين بأن ردة فعل كسرى حول فحوى الرسالة، كانت بتمزيقها بغضب.

صعود الخلافة الإسلامية

بعد وفاة الرسول بالمدينة خلفه أبو بكر بالحكم وأصبح أول خليفة للمسلمين، ولكن مالبث ان ارتدت معظم قبائل العرب عن الإسلام، مما لزم عليه معاقبتها لارتدادهم. فجرت حروب الردة حتى تم عودة جميع تلك القبائل إلى الإسلام خلال سنة 11 هـ، فلم تشرق سنة 12 هجري / 633 م حتى توحدت الجزيرة العربية بأكملها تحت راية واحدة وخليفة يحكمهم بالمدينة. لم يعرف ان كان في نية أبو بكر إرسال الجيوش لفتح البلاد خارج الجزيرة أم لا، إلا أنه يمكن القول بأن الشروع بالفتوحات بدأت في عهده، فتحت صفحة في المسار التاريخي للإسلام جعلت منه خلال فترة قصيرة من الزمن واحدة من أضخم الإمبراطوريات في التاريخ، وبدأت الفتوحات بمواجهة مع الدولة الساسانية تحت قيادة خالد بن الوليد.



عهد أبو بكر الصديق 

بعد الانتهاء من حروب الردة، كان المثنى بن حارثة الشيباني يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك أبا بكر، فسأل عنه، فقيل له: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد". ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: "يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس"، فكتب له الصديق عهد.

عندما بدأ أبوبكر بإرسال الجيوش لغزو العراق. واجهته مشكلة عزوف الناس عن محاربة الفرس، حيث الخوف اللامنطقي الذي استمر في ذاكرة العرب وذلك كنتيجة للهيمنة الفارسية، والنظرة الفرس الدونية لهم. لذا كان من المهم لدى أبوبكر عدم تعريض تلك الجيوش لأية هزيمة، فهذا من شأنه أن يعزز الخوف الغريزي. فعمل نصر حقيقي يتطلب منه أن يفعل تدبيرين في نفس الوقت: عمل جيش يكون بأكمله من المتطوعة وأن يكون تحت قيادة خيرة قادته وهو خالد بن الوليد، ووقتها كان خالد لا يزال في اليمامة بعد نصره الكبير على مسيلمة الكذاب عندما أرسل إليه أبو بكر يأمره بالتوجه إلى العراق، مع عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة السير معه، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فليرجع، فانفض كثير من الجند، وعادوا إلى ديارهم تعبا وإرهاقا من حرب الردة، فلم يبقى مع خالد سوى ألفين من المسلمين. فطلب تعزيزات من أبوبكر، فأرسل إلى زعماء القبائل القريبة من العراق كالمثنى بن حارثة ومظهور بن عدي وحرملة وغيرهم لمساعدة جيش خالد. وفي محرم من السنة 12 هجري / مارس 633 خرج خالد من اليمامة بجيش تعداده 10,000. وانضم إليه زعماء القبائل بتعزيزات 2,000 لكل منهم، فلم يصل خالد تخوم فارس إلا وتعداد جيشه 18,000 جندي، فأصبحت الحيرة هي هدف خالد.

بعد دخوله العراق بجيشه الذي يقدر ب 18,000 جندي، حارب خالد الفرس في أربع معارك وقد كان النصر حليفه جميعها وهي: معركة ذات السلاسل تمت سنة 12 هـ / 633 م، ثم معركة نهر الدم تمت في صفر من نفس العام، ثم الولجة في أواسط صفر حيث هزمت القوات الفارسية رغم تفوقها العددي بنسخة مطورة عن حيلة الكماشة استخدمها خالد بن الوليد. ثم بعد ذلك معركة أليس أوائل ربيع الأول، فبدأت الساحة الفارسية بالتفكك والسقوط بسبب ظهور المشاكل الداخلية، ثم تلى ذلك سقوط الحيرة التي تعتبر عاصمة للعراق في ذلك الوقت. أعطى خالد جيشه استراحة بعد أن أدرك أن معركة الولجة قد فرضت ضغطا رهيبا على قواته، على الرغم من انتصارهم الساحق على الفرس فقد كانت معركة الولجة أطول وأشرس المعارك التي خاضها المسلمون حتى الآن في العراق، ولذلك سعى خالد بن الوليد إلى ضمان أن تبقى معنويات المسلمين مرتفعة.

ثم بعد ذلك بدأ بالتوجه صوب الأنبار في ربيع الثاني وبدأ في حصارها حتى سقطت بعد عدة أسابيع من الحصار في جمادى الأول، ثم اتجه جنوبا إلى الحامية الفارسية الكبيرة التي كانت في عين التمر الواقعة على الطريق إلى دومة الجندل، وكان يقطنها العرب النصارى الموالين للفرس. وكانت الحامية مؤلفة من قسمين الأول فارسي تحت قيادة القائد الفارسي مهران بن بهرام والثاني عربي من قبائل النمر وتغلب وإياد بقيادة عقة بن أبي عقة. وقد تميزت معركة عين التمر الغريبة بسرعة انتهائها، حيث لاذ العرب النصاري بالفرار قبل أن تبدأ المعركة فعلياً. وبذلك يكون معظم العراق خاصة مناطق الفرات واقعة تحت السيطرة الإسلامية.

تلقى خالد وهو في العراق رسالة من عياض بن غنم، شارحا له الوضع السيء له، حيث أنه شبه محاصر في دومة الجندل من قبيلة كلب وجيشه منهك وطلب منه المساعدة. وقد وصلت هذه الرسالة إلى خالد عندما كان هم بالرحيل من عين التمر بإتجاه الحيرة، وكانت الأوضاع في العراق قد استقرت. في اليوم التالي غادر خالد بن الوليد عين التمر على رأس ستة آلاف رجل بإتجاه دومة الجندل. وقد هزم خالد بن الوليد تلك القبائل المناوئة وفتح الحصن عنوة في معركة دومة الجندل وكان ذلك في جمادى الآخر سنة 12هـ الموافق الإسبوع الأخير من اغسطس 633م. كان خالد أقام بدومة الجندل فظنَّ الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة النصارى فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزَّبرقان وهو نائب خالد عليها، فقاتلهم المسلمون بمكان يقال له الحصيد فهزموهم فلجؤوا إلى مكان يقال له‏:‏ خنافس فسار إليهم أبو ليلى ابن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المضيح، فلما استقروا بها بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق وأغار عليهم ليلاً وهم نائمون، فأنامهم ولم يفلت منهم إلا اليسير، فما شبهوا إلا بغنم مصرعة.‏ ثم كانت وقعة الثنى والزميل، وقد بيتوهم فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر، وكان ذلك في رمضان 12 هـ الموافق نوفمبر 633م. ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبي إلى الصديق، وقد اشترى علي ابن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي فاستولدها عمر، ورقية بني علي بن أبي طالب.

أنهت تلك الهزائم الساحقة هيمنة الفرس على العراق، وابقت عاصمة دولتهم المدائن من غير حماية قوية ومعرضة لأي هجوم من الجيوش الإسلامية. غير أنهم قد جهزوا جيوشاً تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته‏. ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان سنة 12هـ / ديسمبر 633 مفطراً لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومسيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنمر، ثم ناهدوا خالداً فهزمهم في وقعة الفراض في النصف من ذي القعدة 12 هـ/ يناير 634.‏ وقد كانت آخر معركة له في العراق قبل أن يرسله أبو بكر إلى الشام قائدا عاما لجيوش المسلمين لمحاربة الروم.


عهد  الفاروق عمر

سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل‏:‏ أنه سار بتسعة آلاف، وقيل‏:‏ بثلاثة آلاف، وقيل‏:‏ بسبعمائة، وقيل‏:‏ بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق‏.‏ فما أن ترك خالد العراق حتى قرر الفرس الهجوم واستعادة ما خسروه من أراض مع خالد. فاضطرت الجيوش الإسلامية بقيادة المثنى في التخلي عن الأراضي التي أخذوها والعودة إلى الحدود الصحراوية والتمركز بها. فذهب إلى المدينة لطلب المساعدة والمدد، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم وشدة قتالهم‏.‏ ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي‏.‏ ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيدة‏. وقد هزم أبوعبيدة أمام الفرس وقتل في معركة الجسر، ولكن المسلمين استطاعوا استلام المبادرة وهزموا الفرس في معركة البويب بقيادة المثنى بن حارثة. في سنة 14 هـ / 635 م رأى يزدجرد الثالث أنه من الأفضل التحالف مع هرقل إمبراطور بيزنطة. فزوج هرقل ابنته ليزدجرد (الابنة الكبرى حسب الأعراف الرومانية لإظهار التحالف). فجهز هرقل جيشا ضخما لاسترداد الشام، وفي نفس الوقت أمر يزدجرد جيوشه كلها بالتمركز لإخراج المسلمين من العراق نهائيا. فكان الهدف هو هجوم منسق من كلا الجبهتين الشامية والعراقية لإبادة جيش المسلمين الذي أرسله عمر. ولكن القدر لم يكن إلى جانبهم



معركة القادسية

أمر الخليفة عمر الجيوش الإسلامية بالرجوع إلى المناطق الصحراوية الحدودية مع العراق والبدء في إعادة تشكيل الجيوش لمواجهة الحملة الفارسية المضادة. حيث يجب عليهم إعادة فتح العراق من جديد بسبب فقدانهم جميع فتوحاتهم فيها. فأعلن النفير العام للمسلمين أن يدركوا المسلمين في العراق واجتمع الناس بالمدينة المنورة فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق والناس لايدرون مايريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه فقرروا أن يبعث على رأس الجيش رجلاً من أصحاب الرسول ويقيم هو ولا يخرج واستشارهم في من يقود الجيش فأشير إليه بسعد بن أبي وقاص، فسلم عمر قيادة جيوش العراق إليه فخرج في ربيع الأول 15 هـ / مايو 636 م، وخيم في القادسية في ربيع الآخر، وفي أثناء ذلك توفي المثنى بن حارثة من جراحة أصيب بها في السابق. فترحم سعد ومن معه على المثنى واوصى باهل بيته خيرا ثم تزوج سعد سلمى زوجة المثنى‏.‏ وكان معه تسعة وتسعون بدريا وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك وثلاثمائة ممن شهد الفتحوسبعمائة من أبناء الصحابة‏.‏

في تلك الفترة بدأ هرقل بالهجوم على المسلمين في الشام، لكن يزدجرد وبسبب الظروف الصعبة في البيت المالك لم يتمكن من التنسيق مع هرقل في هجومه ضد المسلمين ولم تكن لديه خطة واضحة المعالم تجاههم. أما عمر فبعد أن وصلته معلومات عن هذا التحالف فقد وضع خطته الخاصة. وبما أن المعركة مع البيزنطيين قد صارت وشيكة، فقد فضل عمر أن لا يجازف بجيشه في معارك ضخمة مع قوتين عظيمتين في نفس الوقت؛ فإن هزم في إحدى الجبهتين فقد يسبب له الشلل عن الرد في اللحظة الحاسمة. لذا فقد فضل إنهاء الأمر مع البيزنطيين أولا، فبدأ بإرسال ستة آلاف رجل في مجموعات صغيرة كتعزيزات إلى جيشه الموجود في اليرموك، وقد فعل ذلك لكي يعطي الانطباع بأن التعزيزات لن تنقطع عن جيوشه. في الوقت نفسه حاول عمر تعطيل يزدجرد الثالث وذلك بجعل سعد يدخل معهم في مفاوضات كمحاولة لادخالهم الإسلام. وكان هرقل قد أعطى الأوامر لقائده ماهان بأن لايدخل في حرب مع المسلمين إلا بعد أن يأمره هو بذلك. لكن الخوف من تواصل المدد من المدينة، لم يعط للبيزنطيين أي خيار سوى الهجوم على المسلمين حتى لاتزداد قوتهم، فكانت معركة اليرموك -وحصلت قبل معركة القادسية بثلاث أشهر- والتي قضت على النفوذ البيزنطي في الشام وإلى الأبد. ومع ذلك، واصل يزدجرد الثالث لتنفيذ خطته الهجومية والتمركز بجيوشه بالقرب من العاصمة المدائن.بما أن الأوضاع في الشام قد أضحت في صالح المسلمين وخف الضغط النفسي عليهم، مما حدا بعمر أن يأمر سعد بن أبي وقاص بأن يستعد للمعركة مع الجيش الساساني. وقد هزم المسلمون الساسانيون في معركة القادسية في 13 - 16 شعبان 15 هـ / 19 - 22 سبتمبر 635م وتحطم الجيش الفارسي في تلك المعركة مما جعلها بوابة فتح العراق من جديد وأنهت الوجود الساساني في العراق للأبد. واعتبرت تلك المعركة بأنها من أهم المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام والبشرية. وقد قتل فيها أشهر قواد الفرس وهو رستم فرخزاد. وقد استولى سعد بعد تلك المعركة على بابل. ثم فتحت المدائن عاصمة الدولة الساسانية في صفر 16 هـ / مارس 637 بعد حصار دام ثلاثة أشهر.
وصف المؤرخ الإيراني كافيه فروخ في كتابه "ظلال الصحراء: فارس القديمة زمن الحرب" كيفية سقوط المدائن بيد المسلمين:
“ يأس سكان المدينة في اردشير من صد الغزاة المسلمين والتي سقطت في آخر الأمر بأيديهم سنة 637. ولأول مرة شاهد العرب الغنى والثراء الفاحش والفن والثقافة والرقي في عاصمة أضخم الإمبراطوريات. فاستولوا على كل مافيها. وأرسلوا خمس غنائم عاصمة الفرس المدائن إلى الخليفة عمر في المدينة. ومن ضخامة ما غنمه المسلمون أن نصيب الجندي المسلم من تلك المعركة كان مايساوي 12000 درهم من المواد العينية، أي مايعادل بالوقت الحالي 250,000 دولار أمريكي. وتم أسر حوالي 40,000 من أبناء الأشراف الفرس وبيعوا كرقيق في الأسواق



إعادة فتح العراق (636 - 638)


بعد الاستيلاء على العاصمة المدائن مباشرة، تم إرسال الجيوش غربا لفتح قرقيسيا وهيت وهما حصون بيزنطية لحماية الحدود. ومطاردة فلول الفرس المنسحبة من المدائن وتجمعت فيجلولاء وشمال دجلة في تكريت والموصل. وتعتبر جلولاء ذا موقع استراتيجي حيث تتوجه الطرق منها إلى العراق وخراسان وأذربيجان. وكان مهران هو اسم قائد الفرس في جلولاء ومساعده القائد خورازاد وهو أخ لرستم قائد الفرس في القادسية. وكانت تعليمات عمر بن الخطاب بأن يراسله سعد بن أبي وقاص ويخبره بكل تحركات الفرس، فقرر عمر البدء بجلولاء. وكانت خطته هي تحرير جميع الأراضي الشمالية أولا قبل الوصول إلى تكريت والموصل. وأمر هاشم بن عتبة بالذهاب إلى جلولاء، وعبد الله بن المعتم إلى تكريت والموصل لفتحهما. فسار هاشم بن عتبة بجيش تعداده 12,000 مقاتل من المدائن إلى فلول الفرس بقيادة مهران، وقد انتصر عليه في معركة جلولاء. وبعد فتح جلولاء سار عبد الله بن المعتم إلى تكريت واستولى على المدينة بعد مقاومة عنيفة. ثم أرسل جيشه بعد ذلك إلى الموصل والذين أجابوا إلى الصلح ودفع الجزية. وبعد النصر في جلولاء وفتح منطقة الموصل - تكريت يكون فتح العراق قد تأكد واكتمل.

بعد فتح جلولاء، سعت القوات المسلمة بقيادة القعقاع إلى مطاردة الفرس. فقوات الفرس التي فرت من جلولاء بقيادة مهران تحصنت في خانقين 15 ميلا عن جلولاء بالطريق إلى إيران، وقد هزمهم القعقاع وفتح المدينة. ثم إنسحب الفرس إلى حلوان، فحاصرها القعقاع حتى فتحها في ذو الحجة سنة 16 هـ / يناير 638 م. وقد استأذن القعقاع الخليفة عمر بفتح مدن داخلالأراضي الفارسية، لكن عمر تردد طويلاً قبل أن يأذن بغزو فارس ومطاردة يزدجرد. وأمر قادته بالعراق بعد معركة القادسية بأن لا يكثروا الحرب. ولكن الساسانيين لم يبدوا ميلا لعقد سلام. وتمنى عمر "لو أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم. حسبنا من الريف السواد". وكتب سعد إلى عمر: أن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة". ولكن عمر لم يكن ميالا لمواصلة الحرب حتي عام 21 للهجرة. ففي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس أينما كانت لما رأى عمر أن يزدجرد "يبعث عليها في كل عام حرباً". وقيل لعمر سيبقى هذا حتى يخرج من مملكته. فأذن للناس في الانسياح في أرض العجم حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان له.


غارات الفرس على العراق (638 - 641)

في بداية سنة 17 هـ/638 م حل الهدوء على الجبهة الفارسية. بعدما تمكن المسلمون من السيطرة على السواد ومنطقة نهري دجلة والفرات. وانسحب الفرس تجاه الأراضي الفارسية، شرق جبال زاجروس، ولكنهم استمروا بالتحرشات وإرسال الجيوش صوب العراق، مما جعل أوضاعها غير مستقرة. ومع هذا فيبدو أنه سيكون الخط الفاصل بين المسلمون والساسانيون. وفي أواخر تلك السنة تغلب الهرمزان على منطقة الأهواز وهو أحد قادة الفرق التي حاربت في معركة القادسية ومن بيوتات فارس المشهورة، وهو أحد زعماء فارس السبعة الكبار، فبدأ بتكثيف الغارات على المناطق العراقية التي دانت لحكم المسلمين، فأمر عمر سعدا أن يرسل إليه الجيوش ليردوه، فأرسل سعد إليه جيشا من المسلمين انطلق من الكوفة من قبل واليها عتبة بن غزوان بقيادة النعمان بن مقرن، فهاجموا الأهواز وانتصروا عليه، وهذا ما أجبره على طلب الصلح، فأعطوه على أن يضل حاكما للأهواز تحت إمرة المسلمين وأن يدفع الجزية. ثم نقض الهرمزان الصلح بعد أن استعان بجماعة من الكرد، مما حدا بعمر أن جيشا من البصرة بقيادة واليها أبي موسى الأشعري، فهزموه مرة ثانية فتحصن في تستر (ششتر اليوم وهي في شمال الأهواز)، إلا أن أهل المنطقة قد صالحوا المسلمين ودفعوا الجزية لهم، وهذا ما جعل الهرمزان يطلب الصلح ثانية. ثم نقض الهرمزان الصلح ثانية بناء على تحريض يزدجرد بعدما أمده بقوات جديدة لمساعدته أواخر سنة 19 هـ/640 م، فتركزت تلك القوات في تستر. وبلغ الخبر عمر، فأمر أن يسير إليه جيش من الكوفة بقيادة واليها عمار بن ياسر، ومن البصرة بقيادة واليها أبي موسى الأشعري، والنعمان بن مقرن لملاقاة الهرمزان فهزم، ففر إلى تستر فحاصروه، واضطر إلى الاستسلام بعد فتح البلد عنوة، ولجأ الهرمزان إلى القلعة، فحاصروه وأجبروه على الاستسلام، ثم أرسلوه إلى عمر بن الخطاب بالمدينة مع وفد فيه الأحنف بن قيس وأنس بن مالك. وقد أسلم الهرمزان ظاهريا عند عمر، وأصبح أحد مستشاريه في حملاته لفتح فارس. وبعد فتح تستر، توجه أبو موسى صوب شوشان (أو سوسة) وهو موقع له أهمية عسكرية في 20 هـ/641م، ففتحها بعد حصار لمدة شهرين. ثم توجه صوب جنديسابور وهو آخر المواقع العسكرية المهمة في ولاية خوزستان والتي فتحت بعد حصار لعدة أسابيع.


معركة نهاوند (641)



لما فتحت جلولاء خرج القعقاع إلى خانقين فسبى وقتل القائد مهران. فلما علم يزدجرد بذلك خرج من حلوان ( غرب ايران ) وسار نحو الري. وخلف من الجند يقودهم خسروشنوم. ومن ثم توجه إلى مرو حيث جعلها عاصمة لملكه ووجه الرسل إلى البلدان يستجيش الفرس وأهل الري وقومس واصبهان وهمذان والماهين. فكبرياء الإمبراطورية الساسانية قد طعن في الصميم، فهم لم يستطيعوا التقبل بالفتوحات الإسلامية ودخول العرب أراضيهم كغزاة فاتحين. فغضبت له أهل مملكته فتحلبت إليه الأعاجم من أقطار البلاد. واجتمعت المتطوعة والفرسان في نهاوند حتى بلغ عددهم ما بين ستين ألفا إلى مئة ألف وقيل أكثر من مئة وستون ألفا. فأرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر يخبره بذلك، فجمع عمر كبار أصحابه واستشارهم في كيفية مواجهة هذا الموقف، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس قبل أن ينقضوا على المسلمين في بلادهم، فعمل بمشورتهم، وجهز جيشا قوامه نحو أربعين ألف مجاهد تحت قيادة النعمان بن مقرن. وقد كان يريد أن يقود الجيش بنفسه ولكن الصحابة أشاروا عليه بالبقاء وإرسال قائد آخر يوليه الجيش فكان النعمان بن مقرن.

وصل النعمان بن مقرن بجيشه إلى نهاوند، واجتمع الفرس فيها وأميرهم "الفيرزان". كان من حيل الفرس في هذه المعركة أن طرحوا حسك الحديد حول المدينة، والحسك يشبه شوك السعدان، فبعث النعمان عيوناً للاستطلاع فساروا لا يعلمون بالحسك فلم يبرح الفرس مكانه فنـزل صاحبه ونظر فإذا في حافره حسكة فعاد إلى الجيش وأخبر النعمان أن سلاحاً جديداً استخدمه الفرس لم يُعهد سابقا وهو نشر الحسك حول المدينة، وهو أشبه بالألغام في عصرنا الحاضر، فسئل النعمان أهل الرأي في جيشه، فكان الرأي أن ينتقل الجيش من هذا المكان كأنه هارب فيخرج الفرس في طلبهم، فانتقل النعمان، فخرج الفرس وكنسوا الحسك في طلب المسلمين وكان النعمان قد عبأ الكتائب ونظم الجيش وكان عدده ثلاثون ألفا. ولما رأى النعمان جمعهم الكبير كبر فكبر معه المسلمون، أنشب القتال يوم الأربعاء إلى يوم الخميس والحرب بين الفريقين سجال وكان الفرس خلالها في الخنادق فخشي المسلمون أن يطول الأمر فإنهم لم يعتادوا ذلك في لقاء العدو. فاستشار النعمان أصحابه، فكان الرأي ما أشار به طليحة الأسدي أن يبعث خيلا مؤدية فيحدقوا بهم ثم يرموا لينشبوا القتال ويغضبوهم فإذا غضبوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج هرب المسلمون خدعة، فيخرج الفرس في أثرهم، فيكون الكمين الذي عمله المسلمون، فتقدم القعقاع وأنشب القتال فخرج الفرس من خنادقهم، فلما خرجوا نكص القعقاع بجنده واغتنمها الأعاجم، فخرج الفرس ولم يبق منهم أحد في الخنادق إلا من يقوم على الأبواب، وجعلوا يتبعون المسلمين حتى انقطعوا عن حصنهم وخنادقهم. فعندئذ هاجمهم المسلمون وانهزم الفرس وقتل قائدهم الفيرزان قتله القعقاع، وقتل أيضا النعمان بن مقرن واستلم القيادة عنه حذيفة بن اليمان كما أوصى عمر بذلك. لم يجتمع الفرس بعد تلك المعركة وسميت تلك الموقعة بفتح نهاوند وفتح الفتوح. وقد استولى المسلمون على كل بلاد همدان بعد المعركة وفتحوها


فتح فارس (642 - 644)

اعتمد عمر بن الخطاب سياسة جديدة بعد عدة سنوات لم يحدث فيها حروب. فيجب البدأ بغزو كامل الدولة الساسانية. فمعركة نهاوند كانت من أشد المعارك هولا وضراوة في التاريخ الإسلامي وفي تاريخ فارس أيضا، فهي أشد حسما من معركة أرابيلا بين الإسكندر الأكبر وداريوش الثالث والتي قضى فيها الإسكندر على الإمبراطورية الإخمينية بعد تلك المعركة فلم تقم لهم قائمة إلا بعد عدة قرون، ولكن بعد معركة نهاوند لم تقم للفرس أي امبراطورية إلى اليوم. وأضحت تلك المعركة مفتاح الدخول لكامل بلاد فارس. فلم يستطع يزدجرد الثالث أن يجمع من الجيوش كما جمع في نهاوند لمقاومة الجيوش الإسلامية الغازية، فأمر عمر بقتله أو أسره وإحضاره كما فعل بالهرمزان، لكنه استطاع الهرب وبصعوبة من مرو عندما كاد أن يأسره المسلمون، ففر إلى الصين، حيث لا يمكنهم الوصول إليه. وإلى هنا تكون الإمبراطورية الساسانية ذات عمر قارب الأربعمئة عام قد انتهت. يعتبر فتح فارس من أعظم انتصارات عمر، حيث تمكن من إدارة الجيوش وقيادتها وهو على بعد آلاف الكيلومترات من ميادين المعارك، مما أكسبه شهرة كواحد من أعظم العباقرة في القيادة السياسية والعسكرية على مر التاريخ، تماما كمثل خالد بن الوليد الذي اثبت نفس الشيء.

التخطيط الاستراتيجي لفتح بلاد فارس

قرر عمر أن يضرب الفرس بعد هزيمتهم من نهاوند مباشرة بعد أن ارتفعت معنويات جنده أكثر من ذي قبل. لكن المشكلة الاستراتيجية الرئيسية له هي من أين يبدأ الهجوم. كانت هناك ثلاثة بدائل: فارس في الجنوب، أو أذربيجان في الشمال، أو أصفهان في وسط البلاد. فقر الخليفة عمر البدء بأصفهان كأول هدف له، فكانت الخطة هي ضرب قلب الدولة الساسانية في القلب، مما يمكن للجيوش المسلمة من قطع خطوط الإمداد والاتصالات ما بين الحاميات الساسانية عن المقاطعات الفارسية الأخرى، بعبارة أخرى، فإن أي هجوم على اصفهان سيعزل فارس وأذربيجان من خراسان. وبعد سقوط قلب فارس وهي مقاطعة فارس وأصفهان، فإن الهدف التالي لشن الهجوم سيكون باتجاهين في وقت واحد ضد أذربيجان وهي ولاية في الشمال الغربي، وسيستان في أقصى الشرق. فالهجوم على تلك الولايتين سيعزل خراسان الكبرى وهي معقل كسرى يزدجرد الثالث ويجعلها ضعيفة.

في المرحلة الأخيرة من تلك الحملة الكبرى بدأ الهجوم على خراسان. وقد كان المسمار الأخير في نعش الحكم الساساني. بحلول شهر صفر 21 هـ / يناير 642 كانت الخطة قد الخطة وبدأ الشروع بالتنفيذ. فنجاحها يعتمد بشكل أساسي على مدى براعة عمر وقدرته على تنسيق تلك الفتوحات من المدينة المنورة على بعد نحو 1000 ميل من ساحات المعارك في بلاد فارس، وأيضا على مدى مهارات وقدرات قادة جيوشه. فقد اختار عمر أفضل رجاله كقادة جيوشه لفتح فارس وإسقاط خصمه العنيد يزدجرد الثالث. فقد شهدت تلك الحملة نمطا مختلف في هيكل القيادة. فلم يسعى عمر بأن يكون هناك قائد واحد لتلك الحملة لفتح جميع فارس، بل فضل أن يكون هناك عدة قواد جيوش ولكل منهم له غاية محددة، وما أن تنتهي تلك الغاية حتى يتحول هذا القائد إلى جندي عادي تحت قيادة قائد ميداني جديد في مهمة جديدة. وقد فعل ذلك عمر كي يمنع أي من القادة الحصول على امتيازات تجعلهم يطالبون بسلطة أعلى وامتيازات أكثر كحق من حقوقهم. وقد كانت له سابقة في ذلك مع القائدخالد بن الوليد سنة 16 هـ، فبعد أن تنامي قوة وشعبية خالد منعه عمر من قيادة الجيوش في ذروة حياته العسكرية. في هذا الوقت كانت لخالد القدرة على التمرد ضد عمر لكنه لم يفعل بل وأصبح أحد أركان قوة عمر مما جعلت له مكانة في قلب عمر.

كان عمر يعين قادة الأجنحة والقلب والخيالة في الحملات المختلفة على بلاد فارس. فقد كان يشدد في تعليماته للقادة بالتشاور معه قبل اتخاذ أي خطوة حاسمة في تلك البلاد. ففرض على جميع القادة قبل أن يبدأوا بأي حملات منوطة إليهم أن يرسلوا إليه تقرير مفصل عن جغرافيا وتضاريس المنطقة والمدن والجيوش والمواقع العسكرية وقلاع الفرس. ثم يرسل إليهم الخليفة عمر بخطة مفصلة عن كيفية فتح تلك المنطقة المنشودة. واستثنى من ذلك المسائل التكتيكية الطارئة حيث جعل للقادة حرية التصرف وفقا للحالة التي يواجهونها. فقد اختار عمر أفضل الموجودين من القادة ذوو السمعة الحسنة لتلك الحملة.

فتح وسط فارس (اصفهان وطبرستان)

تم استكمال الخطط والتجهيزات العسكرية لفتح كامل أرض فارس في عام 21 هـ / 642 م. فعين عمر عبد الله بن عتبان قائدا للجند لفتح أصبهان. فسار عبد الله من نهاوند إلى همدانوكليهما في قبضة المسلمين. ثم من همدان عرج عبد الله إلى الشمال الشرقي صوب الري، وهي تبعد عن همدان حوالي 200 ميلا، واستكمل حصارها فلم تستسلم المدينة إلا بعد مقاومة شرسة. فما أنسقطت الري حتى توجه عبد الله بن عتبان مسافة 230 ميلا جنوب شرق باتجاه مدينة أصفهان، ففرض حصاره عليها، وعند ذلك أتاه مدد من البصرة والكوفة بقيادة أبو موسى الأشعري والأحنف بن قيس. وتم الحصار لعدة أشهر حتى استسلمت المدينة. وبعد فتح أصفهان توجه عبد الله بن عتبان مسافة 150 ميلا صوب شمال-شرق صوب قم، والتي استسلمت بدون مقاومة كبيرة. وكانت تلك أقصى حدود منطقة اصفهان. حيث تحدها خراسان بالشمال الشرقي، سيستان بالجنوب الشرقي. خلال تلك المدة ثارت مدينتا همدان والري فأرسل عمر إليهما نعيم بن مقرن أخو النعمان بن مقرن لسحق التمرد وتنظيف الحدود الغربية لأصفهان. فاتجه نعيم من اصفهان صوب همدان، حيث دارت رحى معركة دموية تم بعدها اعادة سيطرة المسلمين على همدان، وبعدما فرغ من همدان توجه صوب الري، فقاوم الفرس حتى هزمهم المسلمين واستعاد المسلمون مرة أخرى السيطرة على المدينة. فوافق الأهالي على عقد الهدنة ودفع الجزية. ثم اتجه نعيم شمالا صوب طبرستان حيث الحدود الجنوبية لبحر قزوين. وقد استسلم حاكم طبرستان بأن سلم المدينة للمسلمين مع ابقاءه حاكما عليها تابعا للخلافة الإسلامية، ووافق أيضا على دفع الجزية للمسلمين. وكانت تلك الأحداث قد وقعت في جمادى الأولى 21 هـ / أبريل 642 م. ثم أرسل نعيم أخاه سويد بن مقرن لى قومس فأخذها سلما، وأرسلت إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وآمول وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح. وقد فتحت جرجان سنة 30 هـ زمن عثمان بن عفان.


فتح جنوب فارس (محافظة فارس)

بعد أن ثبت المسلمون امرهم في اصفهان بدأوا بالتوجه لغزو فارس وطبرستان في آن واحد، فخرج مجاشع بن مسعود من البصرة إلى سابور وأردشيرخرت فاعترضه الفرس دونهما بتوج فقاتلهم وانتصر عليهم.‏ وافتتح توج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر فكانت واقعة توج هذه الثانية لواقعة العلاء بن الحضرمي عليهم أيام طاوس.‏ ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا فأقروا بها‏.‏ ومن توج ذهب مجاشع بجيشه إلى كور سابور فوجدها مدينة محصنة. فحاصرها لعدة أسابيع قبل أن تقبل بالجزية وتسقط في أيديهم، ثم استلم عثمان بن أبي العاص قيادة الجيش بدلا من مجاشع، وقد جلب معه مدد من البصرة وتحرك من توج إلى شيراز والتي استسلمت له بسهولة، ثم توجه صوب اصطخر 35 ميلا شمال العاصمة القديمة تخت جمشيد ففتحها عنوة بعد قتال دام.



الشاه عباس الأول



صورة نادرة للشاه عباس الأول




الشاه عباس الأول (27 يناير، 1571 - 19 يناير، 1629) كان الحاكم الأكثر سمواً من سلالة الصفويين (الصفويون هم آل صفويان: سلالة من الشاه حكمت في بلاد فارس (إيران) سنوات 1501-1785 م المقر:تبريز: حتى 1548 م، قزوين: 1548-1598 م، أصفهان: منذ 1598 م.
أسس الشيخ صفي الدين الأردبيلي (1252-1334م) طريقته الصوفية في أردبيل (أذربيجان) سنة 1300 م. أصبحت أردبيل عاصمة دينية ثم سياسية لأتباعه (مع تحولها إلى حركة سياسية). تحول أبناء هذه الطائفة منذ منتصف القرن الـ15 م إلى المذهب الشيعي (تحويل الصفويين لإيران من المذهب السني إلى الشيعي جعل إيران المعقل الروحي للشيعة, ومستودع التقاليد والثقافة الفارسية والوعي الذاتي للقومية الإيرانية والذي يعتبر جسرا لإيران الحديثة. بتوحيد الصفويون لإيران على أنها دولة مستقلة في سنة 1501 تم اتخاذ المذهب الشيعي الإثني عشري والذي يعرف أيضا بالإثني عشري الدين الرسمي لإمبراطوريتهم والذي يعتبر من أهم النقاط في تاريخ الإسلام.
قبل عهد الصفويين كان سكان إيران يتبعون المذهب السني الشافعي والحنفي حتى انتصار الصفويون الذين كانوا في البداية شافعيون. الإيرانيون السنة كانوا دائما يعظمون آل محمد . في المقابل كانت توجد أقلية شيعية وعدد قليل نسبيا من علمائهم .
حكم اسماعيل الاول من سنة 1500 إلى سنة 1502 

غزا إسماعيل الأول تبريز، أذربيجان، وأرمينيا. كرس عقد كامل من الزمن من أجل تعزيز سيطرته على إيران حيث كان الفارسيون ما زالوا يدينون بالمذهب السني. انتشر جيش إسماعيل الأول في المناطق الوسطى سنة 1504 ثم سيطر على جنوب غرب إيران بين سنة 1505 و1508 ثم سيطر على خراسان الكبرى ومدينة هرات في 1510. تأسست سلالة الصفويين في البداية على قاعدتين الأولى كانت المذهب الشيعي والثانية العرق الفارسي وكان إسماعيل أكثر تأثيرا على الأول من الثاني وعرف عن حقده على أهل السنة وأنه ليس له حدود منذ سقوط الدولة الفاطمية الشيعية في مصر في سنة 1171 وهو يهدف إلى إنهاء الاعتقاد بالمذهب السني ولذلك فإن الخيار لغالبية الفرس كان إما اعتناق المذهب الشيعي أو الموت استطاع في الأراضي التي سيطر عليها أن يحول أهلها من المذهب السني إلى المذهب الشيعي)


أما الاسباب لسياسة اسماعيل التحويلية كانت

- أن تكون إيران الصفوية مختلفة عن الدولة العثمانية السنية ذات القوة العسكرية القوية التي تحدها في الغرب وآسيا الوسطى الأوزبكية في الشمال الشرقي


- الصراع الطويل مع الإمبراطورية العثمانية والحروب العديدة التي دارت بينهما جعل إسماعيل الأول أكثر إصرارا على خلق هوية مختلفة وخشيتهم من تكوين طابور خامس من السنة الذين سيتعاونون مع العثمانيين


- التحويل للتشيع كان جزء من عملية بناء أراضي من شأن سكانها الإخلاص والولاء للدولة ومؤسساتها وبالتالي تمكين الدولة ومؤسساتها من نشر حكمهم في جميع أنحاء الأراضي.

أما أساليب التحويل كانت كالتالي :-

- فرض المذهب الشيعي الدين الرسمي للدولة وإجبار الناس على تغيير مذهبهم .


- إنشاء مكتب يكون مسؤولا عن الإشراف على المؤسسات الدينية والأوقاف بغية تحويل إيران إلى المذهب الشيعي الإثني عشري


- تدمير مساجد السنة وقد لاحظ بيريس تومي السفير البرتغالي في الصين والذي زار إيران في الفترة من 1511 إلى 1512 وقال : (إنه (أي إسماعيل) يقوم بإصلاح كنائسنا ويدمر مساجد السنة) .


- أجبر الخطباء في جميع المساجد على شتم الخلفاء الراشدين الثلاثة أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان والذين يعتبرهم مغتصبون لحق الخلافة من علي بن أبي طالب كما سلب جميع ممتلكات السنة وتم توجيهها لتطوير العتبات الشيعية والمؤسسات الدينية كما تم استضافة العلماء الدين الشيعة ليحلوا مكان علماء الدين السنة .


- باح دم أهل السنة وأن تدمر وتدنس المقابر والمساجد السنية. هذا الأمر جعل السلطان العثماني بايزيد الثاني (الذي في البداية هنأ إسماعيل الأول على انتصاراته) نصح الحاكم الشاب بأسلوب أبوي وقف الإجراءات ضد السنة ومع ذلك كان إسماعيل الأول يزيد من قوة بطشه في السنة وتجاهل نصيحة السلطان العثماني في نشر المذهب الشيعي بحد السيف .

- اضطهد وسجن وأعدم المقاومون السنيون بعناد .


- مع إقامة حكم صفوي كان يتم الاحتفال بعيد الغدير في 26 ذي الحجة والذي من وجهة نظرهم نصب رسول الإسلام محمد ابن عمه علي بن أبي طالب إماما من بعده كما يتم الاحتفال في 9 ربيع الأول بمقتل الخليفة عمر بن الخطاب وذلك بصنع دمية على شكل عمر ثم يتم لعنها وطعنها وإهانتها ثم إحراقها. مع تحسن العلاقات بين إيران والدول العربية فإن الأولى قررت عدم الاحتفال رسميا بمقتل عمر ولكن على الصعيد الشعبي ما زال يتم الاحتفال .


- في سنة 1501 دعا إسماعيل الأول جميع الشيعة الذين يعيشون خارج إيران للعيش في إيران من التأكيد على حمايتهم من الأغلبية السنية .

أما عن مصير علماء السنة والشيعة .

العلماء السنة

اتخذ الصفويون عدة خطوات في بداية حكمهم ضد العلماء السنة منها منحهم حق الخيار بين إتباع المذهب الشيعي الإثني عشري أو الموت أو النفي. ذبح رجال الدين السنة الذين قاوموا التشيع في إيران خصوصا في مدينة هرات بينما رحل العديد منهم إلى خارج إيران في الدول السنية القريبة.

العلماء الشيعة العرب

بعد الفتح بدأ إسماعيل الأول في تحويل المشهد الديني في إيران عن طريق فرض التشيع الإثني عشري على السكان. لأن معظم السكان كان معتنقا للمذهب السني وعدم وجود الكثير من العلماء الشيعة اضطر إسماعيل الأول إلى استيراد علماء شيعة من البلدان العربية مثل جبل عامل في جنوب لبنان، البحرين، وجنوب العراق من أجل إنشاء دولة رجال الدين. قدم إسماعيل الأول لهم المال والأرض مقابل الولاء وأن يعلموا الناس المذهب الشيعي الإثني عشري مما شجع بقوة التحول إلى المذهب الشيعي . للتأكيد على مدى ضعف انتشار المذهب الشيعي في إيران قبل الصفويين فإن أحد المؤخرين ذكر أنه كان يوجد كتاب واحد ديني شيعي في عاصمة إسماعيل الأول تبريز . ولذلك من المشكوك فيه ما إذا كان إسماعيل الأول وأتباعه قد نجحوا في إجبار الشعب بأكمله في التشيع من دون دعم العلماء الشيعة العرب دعا حكام الدولة الصفوية علماء الدين الشيعة الفرس إلى دعمهم من أجل توفير الشرعية لحكمهم بلاد فارس .
خلال حكم عباس الأول للدولة الصفوية قام باستيراد علماء شيعة عرب أكثر مما فعل إسماعيل الأول من أجل بناء المؤسسات الدينية والمدارس الدينية والمشاركة في عمل الحكومة.


أثر التحويل خارج إيران


أذربيجان
بعد احتلال تبريز، أذربيجان، وأرمينيا في ما بين 1500 و1502 أعلن أن الدين الرسمي للأراضي المحتلة هو المذهب الشيعي على الرغم من أن أغلبية سكان هذه الأراضي تدين بالمذهب السني. بعد الإعلان شنت حملة تشيع كبيرة للمسلمين السنة القوقاز. فرض التشيع كان قاسيا خصوصا في شيروان حيث تعرض الكثير من أهل السنة لمذبحة القتل ونتيجة لذلك فقد تحول سكان أذربيجان قسرا إلى المذهب الشيعي في بداية القرن السادس عشر 

العراق

استولى إسماعيل الأول بشكل هادئ على بغداد في سنة 1508 وعلى الرغم من ذلك فإن جيوشه قتل بحماس أهل السنة واضطهد حلفائهم . كما أن جيوشه دمرت عدة مواقع هامة للسنة بما في ذلك مقابر أبو حنيفة النعمان وعبد القادر الجيلاني. قرر الصفويون طرد عائلة الجيلاني من بلاد الرافدين. بعد الإعلان عن تشيع العراق أجبر إسماعيل الأول السكان إلى التشيع ونبذ المذهب السني ثم عاد إسماعيل الأول إلى فارس. تسببت هذه الإجراءات الجديدة من قبل الصفويين لقهر السنة العراقيين إلى الغضب والاستياء 
كما قام طهماسب الأول إلى نشر المذهب الشيعي بالقوة في بغداد والبصرة اللتان تقعان في وسط وجنوب العراق وأعدم العلماء السنة الذين رفضوا قبول المذهب الشيعي ودمرت المقابر والأضرحة مرة أخرى فيما تم تحويل المساجد الرئيسية فقط للتعبد بالمذهب الشيعي. استمر اضطهاد أهل السنة حتى قام السلطان العثماني سليمان القانوني إلى طرد الصفويين من معظم العراق 
عندما عاد الصفويون بقيادة عباس الأول إلى بغداد مرة أخرى في سنة 1624 فقد ذبحوا الكثير من سكانها السنة 
أمور مهمة في عملية التحويل


إسماعيل الثاني

شهد عهد إسماعيل الثاني (1576-1578) سياسة مؤيدة لأهل السنة بمساعدة ميرزا مخدوم الشريفي مدير المكتب المسئول عن المؤسسات الدينية والأوقاف حيث حاول فرض سياسة التعايش السلمي مع أهل السنة وعدم معاداتهم ومن أبرز ما قام به وقف التشهير بعائشة زوج نبي الإسلام محمد وعدم شتم الخلفاء الراشدون الثلاثة الأوائل أبوبكر، عمر، وعثمان الذي كان سائدا في بداية الدولة الصفوية. هذا الأمر كان أحد البنود الأساسية للامتثال إلى مطالب الدولة العثمانية من أجل تطبيق بنود معاهدة السلام التي تم توقيعها في أماسيا سنة 1555 كما سعى إلى إضعاف رجال الدين الشيعة والسادة من خلال سحب أراضيهم ومنحهم لأهل السنة مما أدى إلى اشتباك جيش الشاه إسماعيل الثاني مع قبيلة أوستاجلو وعدد من أمراء قزلباش المتحالفين مع رجال الدين. هذا الخلاف بين الشاه من جهة والأمراء من جهة أخرى جعل أهل السنة يستغلون هذا الصراع لتحقيق مصالحهم وتقوية موقفهم. يعود سبب توجه الشاه إسماعيل الثاني إلى إضعاف رجال الدين الشيعة إلى أن أهل السنة الفرس ما زالوا أغلبية. من أجل التقرب أكثر من أهل السنة قرر الشاه إسماعيل الثاني تعيين علماء شيعة يسعون للتقارب مع أهل السنة وهما مولانا ميرزا جان شيرازي ومير مخدوم لالا 
حاول الشاه إسماعيل الثاني إزالة أسماء الأئمة الإثني عشر من العملة الصفوية ولكن محاولاته لم تسفر عن شيء 


عباس الأول من بلاد فارس









الشاه عباس الأول يرفه والي بخارى محمد خان في الهواء الطلق.


لم يصبح التشيع ذو أغلبية بين سكان فارس حتى مجيء عهد عباس الأول (1587-1629) الذي كان يكره أهل السنة وأجبر السكان على القبول بالتحويل إلى المذهب الإثني عشري. بحلول سنة 1602 أصبح أغلبية بلاد فارس يدين بالمذهب الإثني عشري وبالتالي أصبحت إيران شيعية. اعترض الكثير من السكان على الحكم الصفوي الإجباري مما دفع عباس الأول إلى عدة تغييرات إدارية من أجل زيادة تحويل إيران إلى دولة شيعية إثني عشرية 


محمد باقر المجلسي

















رسم للعلامة محمد باقر المجلسي



بتوجيه من محمد باقر المجلسي (1616-1698) أحد أهم رجال الدين الشيعة الذي كرس نفسه من بين جميع الأمور للقضاء على أهل السنة في إيران وسعت الدولة الصفوية خلال القرن السابع عشر إلى فرسنة الممارسة والثقافة الدينية الشيعية من أجل تسهيل انتشاره بين السكان السنة في إيران. لقد كان المجلسي هو الوحيد الذي استطاع أن ينشر بنجاح المذهب الشيعي بين الناس 

السلطان حسين

في عهد السلطان حسين (1694-1722) آخر شاه صفوي قوي شهدت اضطرابات وثورات دينية من أهل السنة .هذه المشاكل ساهمت في 
زيادة زعزعة استقرار الدولة الصفوية حتى نهايتها وكانت من أبرز العوامل في انهيارها 
بسبب محاولة السلطان حسين نشر التشيع بين أهل السنة في جنوب أفغانستان فقد أقدم الزعيم الغلزائي الأفغاني مير وايس هوتاك على قيادة التمرد في ولاية قندهار في سنة 1709. مير وايس والأفغان السنة قتلوا المحافظ الصفوي جورج الحادي العشر وأفراد جيشه وحرروا الجنوب الأفغانستاني من الوجود الفارسي فيه  وتم الإعلان عن استقلال قندهار الذي كان نقطة تحول مهمة حيث أعلن في سنة 1715 غزوه لإيران. استطاع محمود ابن مير وايس الحاق الهزيمة بالصفويين في سنة 1722 في معركة غولناباد ثم توجه غربا حتى العاصمة أصفهان واحتلها وأنهى الدولة الصفوية 


نادر شاه


















رسم للشاه نادر موجود في مؤسسة سميثسونيان


في عهد الشاه نادر في تطبيق سياسة مناهضة للشيعة. فشل الشاه نادر في إعادة سكان إيران للتعبد بالمذهب السني عن طريق الترويج للتشيع السني واعتباره المذهب الخامس بين المذاهب السنية وأن يطلق عليه المذهب الجعفري. هذا المخطط لتطبيق هذا النوع من المذاهب السنية فشل باعتباره دين رسمي للدولة.

من أسباب اعتماد سياسة معادية للشيعة :

  • معظم قوات الشاه نادر تتكون من أفراد أفغانية، تركمانية، كردية، وبلوشية تدين بالمذهب السني والذين كانوا ينفرون من التركمان والفرس الشيعة
  • السياسة الدينية الأصلية تهدف إلى إضعاف الشيعة وتعزيز سيادة بلده في الأراضي السنية المحاذية لإيران وجعل التشيع مذهب سني خامس وهذا تم رفضه من قبل الحكام السنة والشيعة على حد سواء 
  • حاول الشاه نادر إدماج المذهب الشيعي في المذهب السني في محاولة للتقرب من الدولة العثمانية السنية باعتبار أن دولة إيران سنية ولكن الهدف الحقيقي كان الإطاحة بالعثمانيين لتوحيد العالم الإسلامي تحت قيادته 
  • في سنة 1736 وبعدما تم اختيار نادر من قبل الجمعية شاها فقد قبلوا بسياسته الدينية بعودة إيران إلى المذهب السني. التخلي عن التشيع كان ضروريا لإبرام اتفاقية سلام مع الدولة العثمانية السنية وأيضا تقليص الهيبة الدينية الشيعية للدولة الصفوية وأن يكون هو الأكثر جاذبية للسنة الساكنين في المناطق التي ينوي غزوها. ومع ذلك فقد أثارت سياسته الدينية الاستياء في إيران
الأمور التي أنجزها الشاه نادر لتحقيق سياسته المعادية للشيعة :

  • تخلى الشاه نادر عن التشيع وأسس بدلا من ذلك مدرسة سنية شيعية مختلطة للانضمام إلى مدارس المذاهب السنية الأربع 
  • شنق الشاه نادر رجال الدين الشيعة الرئيسيين 
  • اعتمد في جيشه على تجنيد الأفغان، الأكراد، التركمان، والبلوش السنة والذين يتوافقون مع السياسة الدينية الجديدة أما بالنسبة إلى الفرس فلم يكن الأمر بالنسبة لهم بسيط وأرادوا الاحتفاظ بوضعهم الفريد بين دول العالم الإسلامي.
  • داخليا منع بعض الممارسات الشيعية خصوصا المتطرفة منها والتي كانت ممارسات اعتيادية في بداية الدولة الصفوية وأصدر تعليمات إلى العلماء بالحفاظ على تبجيل علي بن أبي طالب ولكن من دون وصفه بأنه نائب الله على الأرض لأنها تتسبب في مواجهات مع أصحاب المذهب السني
  • في سنة 1736 صرح من قزوين بأنه أصدر مرسوم رسمي يعمم على جميع مدن وقرى الدولة ويتم تنفيذه فورا وذلك فرض وقف الممارسات الشيعية التقليدية التي كان في معظمها إساءة إلى رموز أهل السنة 
  • قام الشاه نادر بمجهود كبير من أجل تحديد مكان للتشيع في العالم الإسلامي من خلال الاعتراف بالقوى السنية الرئيسية. حاول دمج المذهب الشيعي بالمذاهب السنية ورفض شتم الخلفاء الراشدين الثلاثة أبوبكر، عمر، وعثمان وفرض هذا الأمر في دولته كما حاول أنتزاع اعتراف من الدولة العثمانية بكون المذهب الإثني عشري مذهب سني خامس وأن يتم تغيير مسماه إلى المذهب الجعفري نسبة إلى الإمام السادس جعفر الصادق. حاول تغيير أحد أركان المذهب الشيعي وهو الإمامة ولكنه قوبل بالرفض من قبل الدولة العثمانية السنية وعلماء الدين الشيعة 
  • نفور الشاه نادر من رجال الدين الشيعة جعله يحاول تقريب وجهات النظر بين السنة والشيعة من أجل استعادة المذهب السني في إيران. سحب الكثير من أراضي الأوقاف الشيعية. خوفا على حياتهم المهددة من قبل الدولة هاجر العديد من العلماء الشيعة إلى العراق واستقروا في النجف وكربلاء 
بعد وفاة الشاه نادر والتفكك السريع لدولته فقد استرد التشيع في إيران عافيته بسرعة وأعيدت ممتلكات الأوقاف الشيعية إليه من جديد 


النتائج التاريخية لسياسة إسماعيل التحويلية














خريطة تظهر الديانات والمعتقدات المعتنقة من قبل سكان إيران

كان لسياسة الشاه إسماعيل التحويلية من المذهب السني إلى المذهب الشيعي النتائج التاريخية التالية :

  • على الرغم من أن التحويل إلى التشيع لم يكن سريعا كما خطط الشاه إسماعيل إلا أن أغلبية الفرس قرروا التحول إلى المذهب الشيعي في بنهاية الدولة الصفوية في سنة 1722 ومن ثم فإنه ليس من قبيل المصادفة أن في إيران اليوم تتركز الأقليات السنية في الجماعات العرقية غير الفارسية على الحدود مع الدول السنية الأخرى
  • أنشأت الدولة الصفوية حدود العداء بين الشيعة الإثني عشرية والسنة على الرغم من أن الخلافات الفقهية موجودة منذ زمن بعيد ومعترف بها من قبل كلا الجانبين. قبل قيام الدولة الصفوية كان الشيعة متوافقين سياسيا مع السنة فكريا 
  • أنهى الشاه إسماعيل الإسلام السني في إيران وجعل علماء الدين الشيعة يسيطرون على المؤسسات الدينية 
  • المنظمة الهرمية من رجال الدين الشيعة بدأ في عهد الشاه إسماعيل 
  • الحدود الحالية بين إيران من جهة وتركيا وأفغانستان من جهة أخرى نتجت ليس بسبب الاختلاف في نوع الجماعات العرقية في البلدان الثلاثة بل بسبب الاختلاف في المذاهب الإسلامية
  • تم التعامل بوحشية مع أهل السنة مما أدى إلى انخراط معظمهم في صفوف المقاومة ضد الدولة الصفوية حتى نهايتها 
  • استخدام الشيعة لممارسة السيطرة لم يكن ناجحا وتبعه قرون من الصراع بين السنة والشيعة حتى بعد سقوط الدولة الصفوية 
  • بقيت إيران الدولة الشيعية الوحيدة في وسط بحر الدول السنية. قال مؤرخون إيرانيون معاصرون بأنهم يأسفون لتحويل إيران للتشيع بالقوة الجبرية ولكن هذا الأمر حفظها من احتلالها من قبل الدولة العثمانية







تولى إسماعيل الصفوي (1501-1524 م) منذ سنة 1494 م زعامة التنظيم وقام بالدعوة إلى المذهب الشيعي. استولى على مناطق غيلان (گيلان)، واصل سنوات 1499-1501 في توسعه حتى شمل كامل بلاد فارس (إيران)، قام بطرد القراقويونلو سنة 1507م واستولى العراق. أقر المذهب الشيعي الإثني عشري مذهبا رسميا للدولة، حاول أن يسوي بين الفئات التركمانية في الجيش (القزلباش) والفئات من أصول إيرانية (الإدارة). انهزم أمام العثمانيين في موقعة جالديران سنة 1514 م. توالت الحروب بينهم وبين العثمانيين على الحدود الغربية من البلاد من جهة، وبين الأوزبك (الشيبانيون في بخارى) على الحدود الشرقية من جهة أخرى. استطاع طهماسب (1524-1576 م) أن يحيَّد أعدائه عن طريق سياسته المتوازنة وتسويته للمشاكل الدينية. كما بدأ في عهده تشجيع حركتي الآداب والفنون. بعد مرحلة اضطرابات عديدة استقر حال الدولة أثناء عهد عباس الأول (1587-1629 م). استولى على أذربيجان سنة 1603 م، ثم شيراز، أرمينية وأجزاء من أفغانستان سنة 1608 م. سنة 23/1624 م قام بضم العراق وكردستان مرة أخرى. داخليا قام بإصلاحات شاملة في الجيش واستعان ببعض من العبيد المسيحيين لقيادة هذا الجيش. عمر مدينة أصفهان وجعل منها أهم مدن العالم في تلك الفترة. استطاع أن ينظم التجارة فاتعش اقتصاد البلاد. بعد موته خلفه على العرش حكام كانوا في الأغلب ضعيفي الشخصية. تم في الفترة إقرار العديد من المراسيم الخاصة بالقصور والتي تتعرض لواجبات الحاشية تجاه الشاه.
عاشت الدولة مجدها الأخير أثناء عهد عباس الثاني (1642-1666 م)، والذي كثف من التبادل التجاري مع الدول الأوروبية عن الشركات التجارية العاملة في المنطقة، كما قام ببعض الإصلاحات الداخلية. قام عام 1648 م بضم أجزء جديدة من أفغانستان إلى دولته. عرفت اقتصاد البلاد مرحلة تقهقر متسارعة أثناء عهد شاه حسين (1694-1722 م) والذي تسبب في إثارة الطائفة السنية بعدما أظهر عدم التسامح في تعامله معهم وتعصبه الشديد للمذهب الشيعي. منذ سنة 1719 م بدأ زحف الأفغان (سنيين) والذين كان يحكمهم الغلزاي (گلزاي) على مملكة الصفويين. استولى هؤلاء على أصفهان سنة 1722 م، قاموا بخلع شاه حسين ثم أعدموه سنة 1726 م. حتى سنة 1736 قام الغلزاي بإنشاء حكومة ظل صفوية (يمثلها شاه مجرد من السلطة). كانت السلطة الحقيقية في بلاد فارس يتقاسمها الزند والأفشريين حتى انتقلت بعدها إلى القاجاريين. ) ( بعد غزوات المغول الكارثية لإيران في القرن الثالث عشر، وهجرة القبائل المغولية والتركية إليها، فبدأ بالتحول إلى اللغة الفارسية والعمل بتقليد عاداتهم تدريجيا. فظهرت سلالة الإلخانات المنغولية والتي يرجع أصول حكامها إلى سلالة جنكيز خان وحفيده هولاكو خان. فلم يأت أواسط القرن الرابع عشر حتى بدات فارس بالوقوع في براثن الفوضى العارمة فانتشر بها التصوف.
وفي السبعينات من القرن 14 ظهر تيمورلنك الذي أدعى بأنه من سلالة جنكيز خان، والذي أصبح منذ 1360 م أميرا على "كش" (جنوبي سمرقند-أوزبكستان)، وقد ساعدته الأحوال المضطربة في بلاد ماوراء النهر على التمدد والتوسع في آسيا الوسطى ).

كان يعرف أيضاً باسم عباس الأكبر (بالفارسية: شاه عباس بزرگ). أصبح شاه إيران في بداية شهر أكتوبر عام 1588، بعدما تمرد على أبيه محمد الصفوي وسجنه.
في وسط الفوضوية العامة في بلاد فارس، عين عباس الأكبر حاكماً على خراسان، في عام 1581، ووصل إلى العرش الفارسي بمساعدة مرشد غولي أوستاجلو، الذي قُتِل لاحقاً في يوليو عام 1589. وهو مصمم على رفع الثروات الساقطة من بلاده، أفرغ جهوده أولاً ضد الأوزبكيين الذين احتلوا خراسان. بعد كفاح طويل وحاد، استعاد مشهد، وهزمهم في معركة عظيمة قرب هرات في 1597، وأبعدتهم من بلاده. حرك عاصمته من قزوين إلى أصفهان في عام 1592. توفي في التاسع عشر من يناير عام 1629.




 ضرب بيد من حديد على غارات الأزبك، وفتح أراضي شاسعة من الترك (1603 – 23). وعم الرخاء في عهده، واستتب الأمن والنظام. استولى بمساعدة الإنجليز 1622 على هرمز من البرتغاليين، وأسس ما يعرف الآن بميناء بندر عباس. شيد أبنية ضخمة في أصفهان.
كما كتب عنه ايضا انه يُعتبر أحد أعظم ملوك الأسرة الصَّفوية safavid dynasty: حرَّر الأراضي الفارسية (الإيرانية) من احتلال القوات العثمانية. جعل أصفهان عاصمة فارس. عزَّزَ التجارة ورعى الفنون، فبلغت الحركة الفنية الفارسية أوجها في عهده. يُعرف بـ ((الكبير)) the Great.